سورة التوبة - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً} فضيلة، {عِنْدِ اللَّهِ} من الذين افتخروا بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} الناجون من النار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} قال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها، نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من يتعلق به أهله وولده، يقولون: ننشدك بالله أن لا تضيعنا. فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، فنهى الله عن ولايتهم، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم أسراركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة، {إِنِ اسْتَحَبُّوا} اختاروا {الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} فيطلعهم على عورة المسلمين ويؤثر المقام معهم على الهجرة والجهاد، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وكان في ذلك الوقت لا يقبل الإيمان إلا من مهاجر، فهذا معنى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.


ثم قال تعالى: {قُلْ} يا محمد للمتخلفين عن الهجرة: {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} وذلك أنه لما نزلت الآية الأولى قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجاراتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا، فنزل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} قرأ أبو بكر عن عاصم: {عشيراتكم} بالألف على الجمع، والآخرون بلا ألف على التوحيد، لأن جمع العشيرة عشائر {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} اكتسبتموها {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} أي: تستطيبونها يعني القصور والمنازل، {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} فانتظروا، {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} قال عطاء: بقضائه. وقال مجاهد ومقاتل: بفتح مكة وهذا أمر تهديد، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي} لا يوفق ولا يرشد {الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الخارجين عن الطاعة.
قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ} أي مشاهد، {كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وحنين واد بين مكة والطائف. وقال عروة: إلى جنب ذي المجاز.
وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان، ثم خرج إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر ألفا،- عشرة آلاف من المهاجرين وألفان من الطلقاء، قال عطاء كانوا ستة عشر ألفا.
وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط، والمشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف، وعلى هوازن مالك بن عوف النَّصْري، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل الثقفي، فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن سلامة بن وقش: لن نغلب اليوم عن قلة، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل. وفي رواية: فلم يرض الله قوله، ووكلهم إلى أنفسهم فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري، ثم نادوا: يا حماة السواد اذكروا الفضائح، فتراجعوا وانكشف المسلمون.
قال قتادة: وذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس فلما انجفل القوم هربوا.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد العزيز أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة عن أبي إسحاق قال: قال رجل للبراء بن عازب: يا أبا عمارة فررتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شُبَّان أصحابِه وأخِفَّاؤُهُم وهم حُسَّرٌ ليس عليهم سلاح، أو كثيرُ سلاح، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن وبني نَصْر، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل واستنصر وقال: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، ثم صَفَّهم.
ورواه محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق. وزاد قال: فما رُئي من الناس يومئذ أشد منه.
ورواه زكريا عن أبي إسحاق. وزاد قال البراء: كنا إذا احمرَّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى شعبة عن أبي إسحاق قال: قال البراء: إن هوازن كانوا قوما رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم، فانهزموا، فأقبل المسلمون على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفرّ.
قال الكلبي: كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس.
وقال آخرون: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غير: العباس بن عبد المطلب، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، فقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج، قال: حدثنا أبو طاهر، أحمد بن عمرو بن سرح، حدثنا أبو وهب، أخبرنا يونس عن ابن شهاب، قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال: قال عباس: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمتُ أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولَّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرْكِض بغلته قِبَل الكفار، وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفُّها إرادةَ أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيْ عباسُ: نادِ أصحاب السَّمُرة، فقال عباس- وكان رجلا صَيِّتا- فقلت بأعلى صوتي: أين اصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عَطْفَتُهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال: هذا حين حََمِيَ الوَطِيسُ ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصياتٍ فرمى بهنَّ وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا وربِّ محمد، فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدَّهم كليلا وأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا.
وقال سلمة بن الأكوع: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنينًا قال فلما غَشُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: «شاهت الوجوه»، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين.
قال سعيد بن جبير: أمدَّ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين.
وفي الخبر: أن رجلا من بني نضر يقال له شجرة، قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل الُبلْق والرجال الذين عليهم ثياب بيض، ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة وما كنا قتلنا إلا بأيديهم؟ فأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الملائكة.
قال الزهري: وبلغني أن شيبة بن عثمان بن طلحة قال: استدبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد قتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة، وكانا قد قتلا يوم أحد، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي فالتفتَ إليَّ وضرب في صدري وقال: أعيذك بالله يا شيبة، فأرعدت فرائصي، فنظرت إليه فهو أحب إلي من سمعي وبصري، فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأن الله قد أطلعك على ما في نفسي.
فلما هزم الله المشركين وولّوا مدبرين، انطلقوا حتى أتوا أوطاس وبها عيالهم وأموالهم، فبعث رسول الله رجلا من الأشعريين يقال له أبو عامر وأمَّرَه على جيش المسلمين إلى أوطاس، فسار إليهم فاقتتلوا، وقتل دريد بن الصمة، وهزم الله المشركين وسبى المسلمون عيالهم، وهرب أميرهم مالك بن عوف النصري، فأتى الطائف فتحصَّنَ بها وأُخِذَ مالُه وأهله فيمن أخذ. وقُتل أمير المسلمين أبو عامر.
قال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر، فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم، فأتى الجعرانة فأحرم منها بعمرة وقسَّم فيها غنائم حنين وأوطاس، وتألف أناسا، منهم أبو سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، فأعطاهم.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا الزهري، أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن أناسا من الأنصار قالوا لرسول الله- حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل- فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويدعنا وسيوفُنا تَقْطُرُ من دمائهم؟ قال أنس: فُحدِّث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قُبَّةٍ من أدم ولم يَدْعُ معهم أحدا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان حديثٌ بلغني عنكم؟ فقال له فقهاؤهم أما ذوُو رأينا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثةٌ أسنانُهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشًا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا، فقال لهم: «إنكم سترون بعدي أَثَرَةً شديدة، فاصبروا حتى تَلْقَوا الله ورسوله على الحوض».
وقال يونس عن ابن شهاب: «فإني أعطي رجالا حديثي عهد بالكفر أتألفهم»، وقال: «فاصبروا حتى تَلْقَوا الله ورسوله فإني على الحوض»، قالوا: سنصبر.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصابه الناس، فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي وكنتم عالةً فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمَنُّ قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسولَ الله كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمَنُّ قال: لو شئتم قُلْتُم كذا وكذا، أتَرْضَوْن أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار شِعَارٌ والناسُ دِثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن أبي عمر المكي، حدثنا سفيان عن عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس:
فما كان حِصْنٌ ولا حابس *** يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ في الْمَجْمَعِ
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبَيْـ *** دِ بين عُيَيْنَةَ والأقرعِ
وما كنتُ دون امرئٍ منهما *** ومن تَخْفِضِ اليومَ لا يُرْفَعِ
قال: فأتمَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة.
وفي الحديث: أن ناسا من هوازن أقبلوا مسلمين بعد ذلك، فقالوا: يا رسول الله أنت خيرُ الناس وأَبَرُّ الناس، وقد أُخِذَتْ أبناؤنا ونساؤنا وأموالنا.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سعيد بن عفير، حدثني الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير: أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يردَّ إليهم أموالهم وسَبْيَهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن معي من ترون وأحبُّ الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال». قالوا: فإنا نختار سبينا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال: «أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظ حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا، فليفعل» فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا لا ندري مَنْ أذِن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم»، فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا. فأنزل الله تعالى في قصة حنين: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} حتى قلتم: لن نغلب اليوم من قلة، {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ} كثرتكم، {شَيْئًا} يعني إن الظفر لا يكون بالكثرة، {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي برحبها وسعتها، {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} منهزمين.


{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ} بعد الهزيمة، {سَكِينَتَهُ} يعني: الأمنَة والطمأنينة، وهي فعيلة من السكون {عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} يعني: الملائكة. قيل: لا للقتال، ولكن لتجبين الكفار وتشجيع المسلمين، لأنه يُروى: أن الملائكة لم يقاتلوا إلا يوم بدر، {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالقتل والأسر وسبي العيال وسلب الأموال، {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}.
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فيهديه إلى الإسلام، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية، قال الضحاك وأبو عبيدة: نَجِس: قذر. وقيل: خبيث. وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى والتثنية والجمع، فأما النّجْس: بكسر النون وسكون الجيم، فلا يقال على الانفراد، إنما يقال: رِجْسٌ نِجْسٌ، فإذا أفرد قيل: نَجِس، بفتح النون وكسر الجيم، وأراد به: نجاسة الحكم لا نجاسة العين، سُمّوا نَجَسًا على الذم. وقال قتادة: سماهم نجسا لأنهم يُجنبون فلا يغتسلون ويُحْدثون فلا يتوضؤون.
قوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} أراد منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام، وأراد به الحرم وهذا كما قال الله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام} [الإسراء- 1]، وأراد به الحرم لأنه أسري به من بيت أم هانئ.
قال الشيخ الإمام الأجل: وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام:
أحدها: الحرم، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال، ذميا كان أو مستأمنا، لظاهر هذه الآية، وإذا جاء رسول من بلاد الكفار إلى الإمام والإمام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم. وجوز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.
والقسم الثاني من بلاد الإسلام: الحجاز، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ولكن لا يقيم فيها أكثر من مقام السفر وهو ثلاثة أيام، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لئن عشت إن شاء الله تعالى لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما». فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» فلم يتفرغ لذلك أبو بكر رضي الله عنه، وأجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته، وأجَّل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا. وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام.
والقسم الثالث: سائر بلاد الإسلام، يجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة وأمان، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم.
قوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} يعني: العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه بالناس، ونادى علي كرَّم الله وجهه ببراءة، وهو سنة تسع من الهجرة.
قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} وذلك أن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يأتون مكة بالطعام ويتجرون، فلما مُنِعوا من دخول الحرم خافوا الفقر، وضيق العيش، وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} فقرًا وفاقة. يقال: عال يعيل عَيْلة، {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال عكرمة: فأغناهم الله عز وجل بأن أنزل عليهم المطر مدرارا فكثر خيرهم. وقال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجريش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون. وقال الضحاك وقتادة: عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8